الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
في تمام الكلام في القرب والرب ـ سبحانه ـ لا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل، بل هو ـ سبحانه ـ يكلم العباد يوم القيامة ويحاسبهم، لا يشغله هذا عن هذا. قيل لابن عباس: كيف يكلمهم يوم القيامة كلهم في ساعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم في ساعة واحدة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيخلو به ربه، كما يخلو أحدكم بالقمر ليلة البدر). واللّه ـ سبحانه ـ في الدنيا يسمع دعاء الداعين، ويجيب السائلين؛ مع اختلاف اللغات، وفنون الحاجات. والواحد منا قد يكون له قوة سمع يسمع كلام عدد كثير من المتكلمين، كما أن بعض المقرئين يسمع قراءة عدة، لكن لا يكون إلا عددًا قليلًا قريبًا منه، والواحد منا يجد في نفسه قربًا ودنوًا وميلًا إلى بعض الناس الحاضرين والغائبين، دون بعض، ويجد تفاوت ذلك الدنو والقرب. والرب ـ تعالى ـ واسع عليم، وسع سمعه الأصوات كلها، وعطاؤه الحاجات كلها. /ومن الناس من غلط فظن أن قربه من جنس حركة بدن الإنسان، إذا مال إلى جهة انصرف عن الأخرى، وهو يجد عمل روحه يخالف عمل بدنه، فيجد نفسه تقرب من نفوس كثير من الناس، من غير أن ينصرف قربها إلى هذا عن قربها إلى هذا. وكذلك يجد في نفسه خضوعًا لبعض الناس ومحبة ويجد فيها نأيًا وبعدًا عن آخرين، وارتفاعًا وإقبالًا على قوم، وإعراضًا عن قوم غير ما هو قائم بالبدن. ففي الجملة، ما نطق به الكتاب والسنة من قرب الرب من عابديه وداعيه هو مقيد مخصوص؛ لا مطلق عام لجميع الخلق، فبطل قول الحلولية، كما قال: وأما قربه من عابديه ففي مثل قوله: وقوله: (ما تقرب إليَّ عبدي بمثل أداء ما افترضته عليه) وقال: (من تقرب إليَّ شبرًا تقربت إليه ذراعًا) فهذا قربه إلى عبده، وقرب عبده إليه؛ ودنوه عشية عرفة إلى السماء الدنيا لا يخرج عن القسمين؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة) فدنوه لدعائهم. وأما نزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة؛ فإن كان لمن يدعوه ويسأله ويستغفره، فإن ذلك الوقت يحصل فيه من قرب الرب إلى عابديه ما لا يحصل في غيره، / فهو من هذا، وإن كان مطلقًا فيكون بسبب الزمان؛ لكونه يصلح لهذا وإن لم يقع فيه. ونظيره [ساعة الإجابة] يوم الجمعة. روى أنها مقيدة بفعل الجمعة، وهي من حين يصعد الإمام على المنبر إلى أن تنقضي الصلاة؛ ولهذا تكون مقيدة بفعل الجمعة، فمن لم يصل الجمعة لغير عذر ويعتقد وجوبها لم يكن له فيها نصيب، وأما من كانت عادته الجمعة ثم مرض أو سافر، فإنه يكتب له ما كان يعمل وهو صحيح مقيم، وكذلك المحبوس ونحوه، فهؤلاء لهم مثل أجر من شهد الجمعة، فيكون دعاؤهم كدعاء من شهدها. وقد تكون الرحمة التي تنزل على الحُجَّاج عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وعلى من شهد الجمعة، تنتشر بركاتها إلى غيرهم من أهل الأعذار، فيكون لهم نصيب من إجابة الدعاء وحظ مع من شهد ذلك،كما في شهر رمضان، فهذا موجود لمن يحبهم ويحب ما هم فيه من العبادة، فيحصل لقلبه تقرب إلى اللّه، ويود لو كان معهم. وأما الكافر والمنافق الذي لا يرى الحج برًا، ولا الجمعة فرضًا وبرًا، بل هو معرض عن محبة ذلك وإرادته، فهذا قلبه بعيد عن رحمة اللّه؛ فإن رحمة اللّه قريب من المحسنين، وهذا ليس منهم. وروى في ساعة الجمعة أنها آخر النهار فيكون سببها الوقت. وقد ثبت في الصحيح: (أن في الليل ساعة يستجاب الدعاء فيها كما في يوم الجمعة، وذلك كل ليلة، وأقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر).
وأما قرب الرب من قلوب المؤمنين وقرب قلوبهم منه، فهذا أمر معروف لا يجهل؛ فإن القلوب تصعد إليه على قدر ما فيها من الإيمان والمعرفة،والذكر والخشية والتوكل، وهذا متفق عليه بين الناس كلهم، بخلاف القرب الذي قبله؛ فإن هذا ينكره الجهمي الذي يقول: ليس فوق السموات رب يعبد، ولا إله يصلى له ويسجد، وهذا كفر وفنَدٌ [أي: الخَرَف وإنكار العقل لهرم أو مرض، والخطأ في القول والرأي والكذب]. والأول تنكره الكُلابية ومن يقول: لا تقوم الأمور الاختيارية به. ومن أتباع الأشعري ـ من أصحاب أحمد وغيره ـ من يجعل الرضا، والغضب، والفرح، والمحبة هي الإرادة، وتارة يجعلونها صفات أخرى قديمة غير الإرادة، وهذا القرب الذي في القلب المتفق عليه هو قرب المثال العلمي في الحقيقة، وذلك مستلزم لمحبته؛ فإن من أحب شخصًا تمثل في قلبه، ووجده قريبًا إلى قلبه، وإذا ذكره حضر في قلبه، وقد يحصل للإنسان بمحبوبه المخلوق فناء عن نفسه، كما قال القائل: غبت بك عني فظننتُ أنك أنِّي. /ومنه قول القائل: حاضر في القلب أُبصره ** لست أنساه فأذكـــــره وقول الآخر: مثالك في عيني وذكرك في فمي ** ومثواك في قلبي فأين تغيب؟ وهذا هو[المثل الأعلى] الذي قال اللّه فيه: وقد قال تعالى: /ويشبه مثل هذا بمثل هذا، وذلك يتضمن تشبيه ذات هذا بذات هذا؛ فإن الخبر عن الأشياء إنما يكون بعد معرفتها، وهو ـ سبحانه ـ أخبر أولًا عن [المثل العلمي] الذي يسمى الصورة الذهنية، ثم إذا كان الخبر صادقًا فإنه يستدل به على أن الحقيقة مطابقة لما تصوره؛ ولهذا كان الناس إنما يعبرون عن الشيء ويصفونه بما يعرفونه، وتتنوع أسماؤه عندهم لتنوع ما يعرفونه من صفاته. ومن رأى اللّه ـ عز وجل ـ في المنام فإنه يراه في صورة من الصور بحسب حال الرائي، إن كان صالحًا رآه في صورة حسنة؛ ولهذا رآه النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة. و[المشاهدات] التي قد تحصل لبعض العارفين في اليقظة، كقول ابن عمر لابن الزبيرـ لما خطب إليه ابنته في الطواف ـ: أتحدثني في النساء ونحن نتراءى اللّه ـ عز وجل ـ في طوافنا؟ ! وأمثال ذلك، إنما يتعلق بالمثال العلمي المشهود، لكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه فيها كلام ليس هذا موضعه؛ فإن ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرتين. فالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بما لم يشركه فيه غيره. وهذا المثال العلمي يتنوع في القلوب بحسب المعرفة باللّه والمحبة له تنوعًا لا ينحصر؛ بل الخلق في إيمانهم باللّه و كتابه و رسوله متنوعون، / فلكل منهم في قلبه للكتاب والرسول مثال علمي بحسب معرفته مع اشتراكهم في الإيمان باللّه وبكتابه وبرسوله ـ فهم متنوعون في ذلك متفاضلون. وكذلك إيمانهم بالمعاد والجنة والنار وغير ذلك من أمور الغيب. وكذلك ما يخبر به الناس بعضهم بعضًا من أمور الغيب هو كذلك، بل يشاهدون الأمور ويسمعون الأصوات، وهم متنوعون في الرؤية والسماع، فالواحد منهم يتبين له من حال المشهود ما لم يتبين للآخر، حتى قد يختلفون فيثبت هذا ما لا يثبت الآخر، فكيف فيما أخبروا به من الغيب؟! والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم عن الغيب بأحاديث كثيرة وليس كلهم سمعها مفصلة، والذين سمعوا ما سمعوا ليس كلهم فهم مراده، بل هم متفاضلون في السمع والفهم كتفاضل معرفتهم، وإيمانهم بحسب ذلك حتى يثبت أحدهم أمورًا كثيرة والآخر لا يثبتها، لاسيما من علق بقلبه شبه النفاة، فهو ينفي ما أثبته الكتاب والسنة وما عليه أهل الحق. وهذا يبين لك أن هؤلاء كلهم مؤمنون باللّه وكتابه ورسوله واليوم الآخر ـ وإن كانوا متفاضلين في الإيمان ـ إلا من شاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى واتبع غير سبيل المؤمنين. ثم هم يتفاضلون في العلم والإرادة، فإذا كان أحدهم أكثر محبة للّه وذكرًا وعبادة، كان الإيمان عنده أقوى وأرسخ من حيث المحبة والعبادة للّه، وإن كان لغيره من العلم بالأسماء والصفات ما ليس له. / وكذلك الإيمان بالرسول، قد يكون أحد الشخصين أعلم بصفاته والآخر أكثر محبة له، وكذلك الأشخاص ـ المشهورون ـ قد يكون الرجل أعلم بما رأى، والآخر أكثر محبة له، و(الأرواح جنود مُجَنَّدة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف) وتعارفها تناسبها، وتشابهها فيما تعلمه وتحبه وتكرهه. وكثير من هؤلاء العباد الذي يشهد قلبه الصورة المثالية ويفنى فيما شهده، يظن أنه رأى اللّه بعينه؛ لأنه لما استولى على قلبه سلطان الشهود لم يبق له عقل يميز به، والمشاهد للأمور هو القلب، لكن تارة شاهدها بواسطة الحس الظاهر، وتارة بنفسه، فلا يبقى أيضًا يميز بين الشهودين، فإن غاب عن الفرق بين الشهودين ظن أنه رآه بعينه، وإن غاب عن الفرق بين الشاهد والمشهود ظن أنه هو، كما يحكي عن أبى يزيد أنه قال: ليس في الجُبَّة إلا اللّه، وكما قال الآخر: غبت بك عني؛ فظننتُ أنك أنِّي، وكان المحبوب قد ألقى نفسه في الماء، فألقى المحب نفسه خلفه. وهذا كله، من قوة شهود القلب وضعف العقل، بمنزلة ما يراه النائم؛ فإنه لغيبة عقله بالنوم يظن أن ما يراه هو بعينه الظاهرة، وما يسمعه يسمعه/ بإذنه الظاهرة، وما يتكلم به يتكلم به بلسانه بالحس الظاهر، وعينه مغمضة، ولسانه ساكت. وقد يقوى تصوره الخيالي في النوم حتى يتصل بالحس الظاهر؛ فيبقى النائم يقرأ بلسانه ويتكلم بلسانه تبعًا لخياله، ومع هذا فعقله غائب لا يشعر بذلك، كما يحصل مثل ذلك للسكران والمجنون وغيرهما. ولهذا جاءت الشريعة بأن القلم مرفوع عن النائم والمجنون والمغمي عليه، ولم يختلفوا إلا فيمن زال عقله بسبب مُحَرَّم. وهذا يبين أن كل من أقر باللّه فعنده من الإيمان بحسب ذلك، ثم من لم تقم عليه الحجة بماجاءت به الأخبار لم يكفر بجحده، وهذا يبين أن عامة أهل الصلاة مؤمنون باللّه ورسوله ـ وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته ـ إلا من كان منافقًا ـ يظهر الإيمان بلسانه ويبطن الكفر بالرسول ـ فهذا ليس بمؤمن، وكل من أظهرالإسلام ولم يكن منافقًا فهو مؤمن، له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك، وهو ممن يخرج من النار ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم. ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف اللّه كما يعرفه نبيه صلى الله عليه وسلم، لم تدخل أمته الجنة؛ فإنهم ـ أو أكثرهم ـ لا يستطيعون هذه المعرفة، بل يدخلونها /وتكون منازلهم متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم، وإذا كان الرجل قد حصل له إيمان يعرف اللّه به وأتى آخر بأكثر من ذلك عجز عنه لم يحمل ما لا يطيق، وإن كان يحصل له بذلك فتنة لم يحدث بحديث يكون له فيه فتنة. فهذا أصل عظيم في تعليم الناس ومخاطبتهم بالخطاب العام بالنصوص التي اشتركوا في سماعها، كالقرآن والحديث المشهور، وهم مختلفون في معنى ذلك، واللّه أعلم، وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه.
/ الجواب: الحمد للّه، اعتقاد الشافعي ـ رضي اللّّه عنه ـ واعتقاد سلف الإسلام؛ كمالك، والثوري، والأوزاعى، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وهو اعتقاد المشايخ المقتدى بهم كالفُضَيل بن عياض، وأبي سليمان الداراني، وسهل بن عبد اللّه التُّسْتُري، وغيرهم. فإنه ليس بين هؤلاء الأئمة وأمثالهم نزاع في أصول الدين. وكذلك أبو حنيفة ـ رحمة اللّه عليه ـ فإن الاعتقاد الثابت عنه في التوحيد والقدر ونحو ذلك، موافق لاعتقاد هؤلاء، واعتقاد هؤلاء هو ما كان عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان، وهو ما نطق به الكتاب والسنة. / وكذلك قال أحمد بن حنبل: لا يوصف اللّه إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له ما أثبته لنفسه من الأسماء الحسنى، والصفات العليا، ويعلمون أنه إلى أن قال: وهو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وهو الذي كلم موسى تكليمًا، وتجََلَّى للجبل فجعله دَكّا، ولا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فليس كعلمه علم أحد، ولا كقدرته قدرة أحد، ولا كرحمته رحمة أحد، ولا كاستوائه استواء أحد، ولا كسمعه وبصره سمع أحد ولا بصره؛ ولا كتكليمه تكليم أحد، ولا كتجلِّيه تجلِّي أحد. واللّه ـ سبحانه ـ قد أخبرنا أن في الجنة لحما ولبنًا، وعسلاً وماءً، وحريرًا وذهبًا. وقد قال ابن عباس ـ رضي اللّه عنهما ـ: ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء. /فإذا كانت هذه المخلوقات الغائبة ليست مثل هذه المخلوقات المشاهدة ـ مع اتفاقها في الأسماء ـ فالخالق أعظم علوا ومباينة لخلقه من مباينة المخلوق للمخلوق، وإن اتفقت الأسماء. وقد سمى نفسه حيًا عليما، سميعًا بصيرًا، وبعضها رؤوفًا رحيمًا، وليس الحي كالحي، ولا العليم كالعليم، ولا السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير، ولا الرؤوف كالرؤوف، ولا الرحيم كالرحيم. وقال في سياق حديث الجارية المعروف: (أين اللّه؟) قالت: في السماء، لكن ليس معنى ذلك أن اللّه في جوف السماء، وأن السموات تحصره وتحويه، فإن هذا لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل هم متفقون على أن اللّه فوق سمواته، على عرشه، بائن من خلقه، ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. وقد قال مالك بن أنس: إن اللّه فوق السماء، وعلمه في كل مكان. إلى أن قال: فمن اعتقد أن اللّه في جوف السماء محصور محاط به، وأنه مفتقر إلى العرش، أو غيـر العرش ـ من المخـلوقات ـ أو أن استواءه على عرشه كاستواء المخلوق على كرسيه ـ فهو ضال مبتدع جاهل، ومن اعتقد أنه ليس فوق السموات إله يعبد، ولا على العرش رب يصلى له ويسجد، وأن محمدًا لم يعرج به إلى ربه، ولا نزل القرآن من عنده ـ فهو معطل فرعوني، ضال مبتدع. وقال ـ بعد كلام طويل ـ: والقائل الذي قال: من لم يعتقد أن اللّه في السماء فهو ضال: / إن أراد بذلك: من لا يعتقد أن اللّه في جوف السماء، بحيث تحصره وتحيط به، فقد أخطأ. وإن أراد بذلك: من لم يعتقد ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، من أن اللّه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، فقد أصاب؛ فإنه من لم يعتقد ذلك يكون مكذبًا للرسول صلى الله عليه وسلم، متبعًا لغير سبيل المؤمنين، بل يكون في الحقيقة معطلًا لربه نافيًا له؛ فلا يكون له في الحقيقة إله يعبده، ولا رب يسأله، ويقصده. وهذا قول الجهمية ونحوهم من أتباع فرعون المعطل. واللّه قد فطر العباد ـ عربهم وعجمهم ـ على أنهم إذا دعوا اللّه توجهت قلوبهم إلى العلو، ولا يقصدونه تحت أرجلهم. ولهذا قال بعض العارفين: ما قال عارف قط: يا اللّه، إلا وجد في قلبه ـ قبل أن يتحرك لسانه ـ معنى يطلب العلو، لا يلتفت يمنة ولا يَسْرَة. وذكر ـ من بعد كلام طويل ـ الحديث: (كل مولود يولد على الفطرة...). ولأهل الحلول والتعطيل في هذا الباب شبهات، يعارضون بها كتاب اللّه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وما أجمع سلف الأمة وأئمتها، وما فطر اللّه عليه عباده، وما دلت عليه الدلائل العقلية الصحيحة؛ فإن هذه الأدلة كلها متفقة / على أن اللّه فوق مخلوقاته، عال عليها، قد فطر اللّه على ذلك العجائز والصبيان والأعراب في الكتاب، كما فطرهم على الإقرار بالخالق ـ تعالى. وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يُهَوِّدانِه، أو يُنَصِّرَانِه، أو يُِمَجِّسَانِه، كما تنتج البهيمة بهيمة جَمعَاء هل تُحِسُّون فيها من جَدْعَاء؟) ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: وهذا معنى قول عمر بن عبد العزيز: عليك بدين الأعراب والصبيان في الكتاب، وعليك بما فطرهم اللّه عليه، فإن اللّه فطر عباده على الحق، والرسل بعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها. وأما أعداء الرسل ـ كالجهمية الفرعونية ونحوهم ـ فيريدون أن يغيروا فطرة اللّه، ويوردون على الناس شبهات بكلمات مشتبهات، لا يفهم كثير من الناس مقصودهم بها، ولا يحسن أن يجيبهم. وأصل ضلالتهم تَكَلُّمُهم بكلمات مجملة، لا أصل لها في كتابه، ولا سنة رسوله، ولا قالها أحد من أئمة المسلمين، كلفظ التَّحَيُّز والجسم، والجهة ونحو ذلك. فمن كان عارفًا بحَلِّ شبهاتهم بَيَّنَهَا، ومن لم يكن عارفًا بذلك فليعرض عن كلامهم، ولا يقبل إلا ما جاء به الكتاب والسنة، كما قال: وكثير من هؤلاء ينسب إلى أئمة المسلمين ما لم يقولوه؛ فينسبون إلى الشافعي، وأحمد بن حنبل، ومالك، وأبي حنيفة من الاعتقادات ما لم يقولوا. ويقولون لمن اتبعهم: هذا اعتقاد الإمام الفلاني؛ فإذا طولبوا بالنقل الصحيح عن الأئمة تبين كذبهم. وقال الشافعي: حكمي في أهل الكلام: أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام. قال أبو يوسف القاضي: من طلب الدِّين بالكلام تزندق. قال أحمد: ما ارْتَدَى أحد بالكلام فأفلح. قال بعض العلماء: المُعَطِّل يعبد عَدَمًا، والممثِّل يعبد صنما. المعطل أعمى، والممثل أعشى، ودين اللّه بين الغالي فيه والجافي عنه. وقد قال تعالى: انتهى، والحمد للّه رب العالمين.
|